
الخدمات الحكومية المدعومة بالذكاء الاصطناعي سبيل لتجربة مواطن مُثلى
يُقاس أداء المؤسسات العامة اليوم بقدرتها على تقديم خدمات وتجارب متميزة للمواطنين، إذ إنها المحك الحقيقي لكفاءة الحكومات في الاستجابة لمتطلباتهم وتحقيق التحسينات في جودة حياتهم. فلم تعد الخدمات الحكومية تنطوي على مجرد إنجاز إجراء روتيني أو استيفاء متطلّب إداري، بل غدت رحلة متكاملة تنطلق من التفكير في احتياجات المواطن وتكتمل بتحقيق سعادته ورضاه.
ومع ذلك، ثمة فجوة اليوم بين ما يعيشه المواطن من تجارب فريدة في تعاملاته مع القطاع الخاص، وما يلاقيه من مسارات معقدة في دهاليز المؤسسات الحكومية، إذ يجد نفسه متنقلًا بين عالمين متباينين: أحدهما رقمي متقدّم يلبي احتياجاته بلمسة زر، والآخر تقليدي تتشابك فيه الإجراءات وتتعدد متطلباته. ونظرًا لتزايد توقعات المواطنين المتأثرة بتجاربهم السلسة مع القطاع الخاص، بات لزامًا على الحكومات إعادة النظر في منظومتها الإدارية بأكملها لتضييق الفجوة وتلبية تطلعات المجتمع المتنامية.
وقد أثبتت التجارب العالمية أن المؤسسات التي تتخذ من المواطن محورًا لها تتفوق على نظيراتها في مؤشرات الآداء كلها، لأنها تنظر إليه كشريك فعّال في صناعة القرار وتطوير الخدمات، لا مجرد متلقٍ لها. وهذه الحقيقة تدفعنا إلى تبني منهجية مغايرة في الإدارة الحكومية، أساسها تصميم الخدمات وتحسينها باستخدام التقنيات الذكية المتطورة، ووفق رحلة المواطن وتجربته، لا وفق ما ترتئيه المؤسسة من إجراءات وقواعد مناسبة. وهذا من شأنه أن يؤسس لعلاقة متينة بين المواطن ودولته، ويعزز لديه الشعور بالانتماء والمشاركة الفاعلة.
- الفاتورة المخفية لتجارب المواطنين السلبية
تتصاعد تكلفة التجارب السلبية للمواطنين متجاوزةً الإحباط النفسي لتضرب في عمق الاقتصاد. على سبيل المثال، تعاني المشاريع الاستثمارية تباطؤًا ملحوظًا عندما تستهلك التراخيص التجارية أسابيع متتالية حتى تُستكمل، الأمر الذي يفضي إلى تجميد رؤوس الأموال وتأجيل الافتتاحات التجارية، فيتوقف التوظيف وتتعطل سلاسل الإمداد بكاملها، ويضيع وقت المواطنين والشركات في دوامة الانتظار والتنقل لإنجاز المعاملات المتكررة.
وتمتد هذه التأثيرات بصورة متسلسلة عبر مفاصل الاقتصاد لتطال شرائح المجتمع المختلفة وبالأخص ذوي الدخل المحدود والفئات الأشد تأثرًا بالتقلبات الاقتصادية ممّن يعتمدون اعتمادًا أسياسيًا على منظومة الخدمات والدعم الحكومي.
في المقابل، تحقق الدول ذات الإجراءات الميسرة مراتب متقدمة في التصنيفات الاقتصادية العالمية، وتستقطب استثمارات أجنبية مباشرة تفوق نظيراتها ذات الإجراءات المعقدة، وتنجح في استقطاب الكفاءات المتميزة. ويعتبر المستثمرون سهولة التعاملات الحكومية من المعايير الأساسية عند اختيار الأسواق المستهدفة.
وعلى الرغم من المكانة الاقتصادية المرموقة لدول مجلس التعاون الخليجي، التي تحتل مجتمعة المرتبة الحادية عشرة عالميًا في الناتج المحلي الإجمالي بقيمة 2.1 تريليون دولار (2023)، وتمثل 60.3% من الناتج المحلي العربي، إلا أن تعزيز جودة تجربة المواطنين تبقى ركيزة أساسية لاستدامة هذا النمو وتعزيزه، وهو مبدأ يؤمن به 60% من الوزراء حول العالم بحسب نتائج “استبيان الوزراء العالمي”. فحكومات المستقبل ستكون تشاركية، يُسهم فيها المواطنون بفعالية في تصميم الخدمات العامة وتطويرها.
- تحسين تجربة المواطن الهدف الأسمى للتحول الرقمي في القطاع العام
لو تأملنا مستقبل التحول الرقمي الذي تسعى إليه رؤية “الحكومة 5.0”، لأدركنا أنه يتطلب إعادة تشكيل جذرية للمفاهيم الإدارية التقليدية. فالرقمنة ليست غاية في حد ذاتها، بل هي أساس لمنظومة حكومية متكاملة تجمع بين التقنية المتطورة والكفاءة التشغيلية والخدمة المجتمعية. فالحكومات الأكثر تطورًا تقنيًا ليست بالضرورة الأكثر قربًا من مواطنيها، ما لم تتمكن من تقديم خدماتها بمستوى يليق بتطلعات المجتمع.
ومن الملفت أن الحكومات الخليجية تقف اليوم أمام مرحلة مهمة في مسيرة التطوير، إذ تتقدّم من مستوى “الحكومة 3.0” الذي يركز على توسيع نطاق الخدمات الرقمية وتحسين كفاءة الإجراءات الحكومية، نحو تصميم خدمات تدور في فلك المواطن وتجسد فهمًا عميقًا لمراحل حياته المختلفة، وتقديمها عبر منصة موحدة، لتتجاوز بذلك نموذج “الطلب والاستجابة” إلى نموذج “التوقع والاستباق”. فالمواطن الذي يقضي دقائق معدودة في إنجاز معاملاته، بدل أسابيع من المراجعات والانتظار، هو مواطن أكثر إنتاجية وانتماءً، يساهم بفاعلية في بناء اقتصاد المعرفة الذي تتطلع إليه رؤى دول المنطقة.
- أرضية خصبة لبناء تجربة مواطن استثنائية
تمتلك دول المجلس مقومات استثنائية من شأنها أن تغذي سيرة التحول: بنية تحتية رقمية متطورة، وقيادة ذات رؤية ثاقبة، ومجتمعات شابة متعطشة للابتكار وصنع التغيير. تُجسّد تطبيقات “نفاذ” و”توكلنا” و”أبشر” السعودية و”شلونك” الكويتي وتطبيق “هيئة الصحة بدبي” و”دبي الآن” و”الهوية الرقمية” الإماراتية، إلى جانب تطبيق “حكومي” القطري نماذج ناجحة للتكامل بين الجهات الحكومية، تمهد الطريق نحو “الحكومة الواحدة” المتناغمة.
وتبرهن هذه المبادرات على نضج رقمي ملحوظ أسهم في زيادة مؤشر تطوير المنظومة الرقمية في الوطن العربي بنسبة 10% وفق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهذا ما انعكس إيجابًا على نمو الناتج المحلي الإجمالي للفرد بنسبة 2.49%. ومع ذلك، تلك الإنجازات ما هي إلا بذور غُرست لحصاد أكثر نضجًا.
يتخطى الطموح هذه النجاحات المبدئية نحو مفهوم أعمق. فبينما يستمر العمل على تحقيق التكامل بين المؤسسات الحكومية كتحدٍ قائم، يبرز موازيًا له تحدٍ آخر في تصميم تجارب متكاملة تواكب مراحل حياة المواطن من لحظة الولادة إلى الزواج، ومن شراء منزل الأحلام إلى إطلاق مشروع تجاري واعد.
ويدعم هذا المسار الطموح الاستعداد المجتمعي الملحوظ، إذ أبدى 76% من المواطنين الخليجيين رغبتهم في تبني الخدمات الحكومية المعززة بالذكاء الاصطناعي مثل المساعدات الافتراضية والحلول المخصصة، ما يعكس انفتاحًا كبيرًا على تبني التقنيات الحديثة وثقةً في جاهزيتها. ويعتقد 42% منهم أن على الحكومات أن تقدم خدمات تضاهي بل وتتفوق على تلك التي يقدمها القطاع الخاص.
وتبدأ خطوات تحقيق هذا الطموح بالإنصات لصوت المواطن، عبر تقنيات ذكية تستوعب خصوصية اللغة العربية وتنوع لهجاتها، وتتيح للحكومات استقراء مستويات الرضا بدقة، واستشراف الاحتياجات قبل ظهورها. فالمواطن لا يعنيه تعقيدات الهيكل التنظيمي للدولة بقدر ما تهمه سلاسة التجربة واحترام وقته. والحكومات مدعوة اليوم لوضع خطط واضحة تُخضِع كل مبادرة لمقاييس صارمة توضّح التأثير المباشر على جودة حياة المواطن وتنافسية الاقتصاد.
- خطوات عملية لبناء منظومة خدمات تضع المواطن أولًا
كشفت تجاربنا مع جهات حكومية عدة في أنحاء الوطن العربي عن حجم التحديات أمام تحسين تجربة المواطن وتطوير منظومة الخدمات الحكومة من خلال توظيف التقنيات الناشئة.
وللتصدي للتحديات وتحسين الخدمات العامة بهدف إثراء تجربة المواطن، على الحكومات الانتقال من الاستجابة بعد وقوع المشكلات إلى توقعها والتخطيط المسبق لحلها. توفر منصة لوسيديا حلولًا فعّالة تجمع ملاحظات المواطنين في مكان واحد، وتحوّلها إلى بيانات قابلة للقياس والتحليل، تكشف بدقة عن التحديات التي يواجهها المواطنون يوميًا عند الحصول على الخدمات. بفضل ذلك، تستطيع الحكومات صياغة سياسات محددة وإجراء تحسينات مدروسة على الخدمات العامة، والاستجابة فورًا للمتطلبات المتغيرة، لبناء نظام خدمات متطور يستجيب بكفاءة لاحتياجات مجتمعه.
وانطلاقًا من هذه الرؤية، نضع بين أيديكم أربع أولويات لتسريع وتيرة التحول نحو خدمات حكومية تتمحور حول المواطن وتستثمر إمكانات الذكاء الاصطناعي بكفاءة.
أولًا: الاستعانة بمنظومة بيانات موحدة تجمع معلومات المواطنين من مصادر متعددة، وتصنّفهم إلى فئات محدّدة، وتوفّر لكم أدوات تحليل ذكية لاستخلاص رؤى عملية من البيانات الضخمة، وتطوير مبادرات حكومية مبنية على فهم دقيق لاحتياجات المجتمع. ومن أهم مصادر البيانات التي ينبغي الاستفادة منها منصات التواصل الاجتماعي، والاستبيانات الإلكترونية، وقنوات التواصل المباشر، والاستجابات للحملات الإعلامية، ومراكز الاتصال. ويستطيع الذكاء الاصطناعي تحليل مشاعر المواطنين عبر هذه الوسائط، ورسم صورة واضحة عن مستويات الرضا. وتتيح هذه المنظومة أيضًا النفاذ إلى سجل الملاحظات التاريخية المرتبطة بإجراءات سابقة، وكشف تطور التصورات العامة على مر الزمن وتبيان القضايا المتجذرة التي قد يستمر تأثيرها رغم تغير النظم. بهذا تتجاوز الحكومات معالجة الأعراض الظاهرة إلى استئصال جذور التحديات.
ثانيًا: رسم خرائط رحلة المواطن الكاملة وتحديد نقاط التفاعل مع الجهات كافةً، وتطوير منصات رقمية موحدة تدمج الخدمات المرتبطة بكل مرحلة من حياة المواطن ضمن واجهة واحدة متكاملة لإزالة الحواجز بين الجهات. هذا النهج يقلص وقت الإنجاز، ويخفض التكاليف، ويعزز الشفافية، ويحول تجربة المواطن من مسار متعرج بين الإدارات إلى رحلة بسيطة نحو خدمة متكاملة.
ثالثًا: تمكين الكوادر البشرية والتقنية بالذكاء الاصطناعي، فهو يستطيع تحرير 10-20% من مهام الموظفين وتوليد 1.75 تريليون دولار سنويًا في القطاع العام. وتكشف الدراسات علاقة وثيقة بين رضا المواطن والموظف، إذ ترتفع إنتاجية الأخير بنسبة 40% حين يلمس رضا الأول. ولتحقيق هذه المعادلة، تبرز أهمية الشراكة مع مزودي خدمات تقنية يتقنون تحليل البيانات باللغة العربية، مما يسمح ببناء منظومة رصد متكاملة تستجيب لاحتياجات المواطنين بدقة وسرعة، وتمكّن الحكومات من صناعة قرارات مستنيرة تحول الخدمات العامة إلى تجارب متميزة ومستدامة.
رابعًا: تقييم الأداء وتحسينه باستمرار من خلال وضع مؤشرات محددة تقيس جودة تجربة المواطن، كمعدل الانتظار للحصول على الخدمة، ونسبة إنجاز المعاملات من المرة الأولى، ومؤشر سهولة الاستخدام للمنصات الرقمية، ومدى تكامل الخدمات عبر الجهات، ونسبة نجاح تبادل البيانات بين الجهات، وعدد الخطوات التي يقطعها المواطن بين الجهات المختلفة للحصول على خدمة متكاملة، ومستوى رضاه عبر استطلاعات الرأي الفورية. بذلك، يمكن للجهات الحكومية تنفيذ إجراءات تصحيحية ووقائية سريعة وتحسينات مستمرة.
إن بناء تجربة مواطن مرضية ليست مهمة قطاع واحد، بل مسؤولية وطنية مشتركة تتطلب جرأة في التغيير، وتوظيفًا نوعيًا للكفاءات البشرية والتقنيات المتطورة. فالمؤسسات الحكومية الرائدة تعي أن المواطن جوهر رسالتها وليس مجرد رقم إحصائي، وأن نجاحها مرهون برضاه. لذا فهي لا تنتظر الشكاوى لتصلح، بل تبادر إلى ابتكار الحلول المتقدمة لتقديم الدعم بأعلى جودة، وتحقق قيمة مستدامة للمجتمع في كل لحظة تواصل بين المواطن والحكومة.
تفتح منصة لوسيديا، بقدراتها الذكية الفائقة، نافذةً جديدةً للإنصات العميق لرضا المواطن وتحليل تطلعاته بدقة استثنائية. إنها المنصة التي تضع مؤسستكم في طليعة الاستجابة لاحتياجات المجتمع وتحقيق التميز المؤسسي المنشود. شهدت الحكومات المتبنية لهذه التقنية تحولًا ملموسًا: تصاعدًا في مؤشرات الرضا، وانحسارًا للشكاوى، وترسيخًا للثقة بين المواطن ودولته. استثماركم اليوم في هذه المنظومة المتطورة هو استثمار في مستقبل الحوكمة الرشيدة وتعزيز مكانة القطاع العام. الريادة بانتظاركم!